فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة» فأنزل الله سبحانه وتعالى آية الصدقة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من بني سليم ورجلًا من جهينة وكتب لهما أسنان الصدقة وكيف يأخذان وقال لهما: مرا على ثعلبة بن حاطب ورجل من بني سليم فخذا صدقاتهما، فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليّ فانطلقا وسمع بها السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها فلما رأياها قالا: ما هذه عليك.
قال: خذاها فإن نفسي بذلك طيبة فمرا على الناس وأخذا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة فقال أروني كتابكما فقرأه ثم قال: ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية اذهبا حتى أرى رأيي.
قالا: فأقبلا فملا رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يتكلما: ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة ثم دعا للسلمي بخير فأخبراه بالذي صنع ثعلبة فأنزل الله سبحانه وتعالى فيه: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن} الآية إلى قوله سبحانه وتعالى: {وبما كانوا يكذبون} وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال: ويحك يا ثعلبة لقد أنزل الله فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبي فسأله أن يقبل منه صدقته فقال: إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك، فجعل يحثو على رأسه التراب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني»، فلما أبى أن يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقته رجع إلى منزله وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى أبا بكر فقال: اقبل صدقتي.
فقال أبو بكر: لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا لا أقبلها.
فقبض أبو بكر ولم يقبلها منه فلما ولي عمر أتاه فقال: اقبل صدقتي فقال: لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر فأنا لا أقبلها منك فلم يقبلها.
ثم ولي عثمان فأتاه فلم يقبلها منه وهلك في خلافة عثمان.
وأخرجه الطبري أيضًا بسنده.
قال بعض العلماء: إنما لم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة ثعلبة، لأن الله سبحانه وتعالى منعه من قبولها منه مجازاة له على إخلافه وما وعد الله عليه وإهانة له على قوله: إنما هي جزية أو أخت الجزية، فلما صدر هذا القول منه ردت صدقته عليه إهانة له وليعتبر غيره فيه فلا يمتنع من بذل الصدقة عن طيب نفس بإخراجها ويرى أنها واجبة عليه وأنه يثاب على إخراجها ويعاقب على منعها.
وقال ابن عباس: إن ثعلبة أتى مجلسًا من مجالس الأنصار فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت منه كل ذي حق حقه وتصدقت منه ووصلت القرابة فمات ابن عم له فورث منه مالًا فلم يف بما عاهد الله عليه فأنزل الله فيه هذه الآية.
وقال الحسن ومجاهد: نزلت في ثعلبة ومعتب بن قشير وهما من بني عمرو بن عوف خرجا على ملأ قعود فقالا لئن رزقنا الله من فضله لنصدقن فلما رزقهما الله بخلا به.
وقال ابن السائب: إن حاطب بن أبي بلتعة كان له مال بالشام فأبطأ عليه فجهد لذلك جهدًا شديدًا فحلف بالله لئن آتاني الله من فضله يعني ذلك المال لأصدقن منه ولأصلن فلما آتاه ذلك المال لم يف بما عاهد الله عليه فنزلت هذه الآية وحاصله أن ظاهر الآية يدل على أن بعض المنافقين عاهد الله لئن آتاه من فضله ليصدقن وليفعلن فيه أفعال الخير والبر والصلة فلما آتاه الله من فضله ما سأل لم يف بما عاهد الله عليه ومعنى الآية ومن المنافقين من أعطى الله عهدًا رزقنا من فضله بأن يوسع علينا في الرزق لنصدقن يعني لنتصدقن ولنخرجن من ذلك المال صدقته {ولنكونن من الصالحين} يعني: ولنعملن في ذلك المال ما يعمله أهل الصلاح بأموالهم من صلة الأرحام والإنفاق في سبيل الله وجميع وجوه البر والخير وإخراج الزكاة وإيصالها إلى أهلها والصالح ضد المفسد والمفسد هو الذي يبخل بما يلزمه في حكم الشرع.
وقيل: إن المراد بقوله لنصدقن، إخراج الزكاة الواجبة، وقوله: {ولنكونن من الصالحين} إشارة إلى كل ما يفعله أهل الصلاح على الإطلاق من جميع أعمال البر والطاعة. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)}
بيان لقبائح بعض آخر من المنافقين، والآية نزلت في ثعلب بن حاطب ويقال له ابن أبي حاطب وهو من بني أمية بن زيد، وليس هو البدري لأنه قد استشهد بأحد رضي الله تعالى عنه.
أخرج الطبراني والبيهقي في الدلائل وابن المنذر وغيرهم عن أبي أمامة الباهلي قال: جاء ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يرزقني مالًا.
فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك يا ثعلبة أما تحب أن تكون مثلي فلو شئت أن يسير الله تعالى ربي هذه الجبال معي ذهبًا لسارت.
قال: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يرزقني مالًا فوالذي بعثك بالحق أن آتاني الله سبحانه مالًا لأعطين كل ذي حق حقهُ، فقال: ويحك يا ثعلبة قليل تطيق شكره خير من كثير لا تطيقه.
قال: يا رسول الله ادع الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أرزقه مالًا فاتخذ غنما فبورك له فيها ونمت كما ينمو الدود حتى ضاقت به المدينة فتنحى بها فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يشهدها بالليل ثم نمت كما ينمو الدود فضاق به مكانه فتنحى بها فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يشهدها بالليل ثم نمت كما ينمو الدود فتنحى وكان لا يشهد الصلاة بالليل ولا بالنهار إلا من جمعة إلى جمعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نمت كما ينمو الدود فضاق به مكانه فتنحى بها فكان لا يشهد جمعة ولا جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يتلقى الركبان ويسألهم عن الأخبار فقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنه فأخبروه أنه اشترى غنمًا وأن المدينة ضاقت به.
فقال عليه الصلاة والسلام: ويح ثعلبة بن حاطب ويح ثعلبة بن حاطب قم إن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الصدقات وأنزل: {خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ} [التوبة: 103] الآية فبعث رجلين رجلًا من جهينة ورجلًا من بني سلمة بأخذان الصدقات وكتب لهما اسنان الإبل والغنم ويكف يأخذانها وأمرهما أن يمرا على ثعلبة ورجل من بني سليم فخرجا فمرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال: أرياني كتابكما؟ فنظر فيه فقال: ما هذا إلا جزية انطلقا حتى تفر غائم مرابي فانطلقا وسمع بهما السليمي فاستقبلهما بخيار ابله فقالا: إنما عليك دون هذا فقال: ما كنت أتقرب إلى الله تعالى إلا بخير مالي فقبلا فلما فرغا مرا بثعلبة فقال: أرياني كتابكما؟ فنظر فيه فقال: ما هذا إلا جزية انطلقا حتى أرى رأيي فانطلقا حتى قدما المدينة فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يكلمهما: ويح ثعلبة بن حاطب ودعا للسليمي بالبركة وأنزل الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله} الآيات الثلاث فسمع بعض من أقاربه فأتاه فقال: ويحك يا ثعلبة أنزل فيك كذا وكذا فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذه صدقة مالي.
فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله قد منعني أن أقبل منك فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عملك بنفسك أمرتك فلم تطعني فلم يقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مضى، ثم أتى أيا بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أبا بكر أقبل مني صدقتي فقد عرفت منزلتي من الأنصار.
فقال أبو بكر: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلها فلم يقبلها أبو بكر، ثم ولى عمر رضي الله تعالى عنه فأتاه فقال: يا أبا حفص يا أمير المؤمنين اقبل من صدقتي فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر أقبلها أنا فأبى أن يقبلها، ثم ولى عثمان رضي الله تعالى عنه فلم يقبلها منه وهلك في خلافته.
وفي بعض الروايات أن ثعلبة هذا كان قبل ذلك ملازمًا لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم حتى لقب حمامة المسجد ثم رآه النبي صلى الله عليه وسلم يسرع الخروج منه عقيب الصلاة فقالا عليه الصلاة والسلام له: مالك تعمل عمل المنافقين؟ فقال: إني افتقرت ولي ولامرأتي ثوب واحد أجيء به للصلاة ثم أذهب فأنزعه لتلبسه وتصلي به فادع الله تعالى أن يوسع على رزقي إلى آخر ما في الخبر.
والظاهر أن منع الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام عن القبول منه كان بوحي منه تعالى له بأنه منافق والصدقة لا تؤخذ منهم وان لم يقتلوا لعدم الإظهار، وحثوه للتراب ليس للتوبة من نفاقه بل للعار من عدم قبول زكاته مع المسلمين.
ومعنى هذا عملك هذا جزاء عملك وماقلته، وقيل: المراد بعمله طلبه زيادة رزقه وهذا إشارة إلى المنع أي هو عاقبة عملك، وقيل: المراد بالعمل عدم إعطائه للمصدقين.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ثعلبة أتى مجلسًا من مجالس الأنصار فأشهدهم لئن آتاني الله تعالى من فضله تصدقت منه وآتيت كل ذي حق حقه فمات ابن عم له فورث منه مالًا فلم يف بما عاهد الله تعالى عليه فأنزل الله تعالى فيه هذه الآيات.
وقال الحسن: إنها نزلت في ثعلبة.
ومعتب بن قشير خارجا على ملأ قعود فحلفا بالله تعالى لئن آتانا من فضله لنصدقن فلما آتاهما بخلا.
وقال السائب: إن حاطب بن أبي بلتعة كان له مال بالشام فأبطأ عليه فجهد لذلك جهدًا شديدًا فحلف بالله لئن أتانا الله من فضله يعني ذلك المال لأصدقن ولأصلن فلما آتاه ذلك لم يف بما عاهد الله تعالى عليه وحكى ذلك عن الكلبي، والأول أشهر وهو الصحيح في سبب النزول، والمراد بالتصدق قيل: إعطاء الزكاة الواجبة وما بعده إشارة إلى فعل سائر أعمال البر من صلة الأرحام ونحوها.
وقيل: المراد بالتصدق إعطاء الزكاة وغيرها من الصدقات وما بعده إشارة إلى الحج على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو إلى ما يعمه والنفقة في الغزو كما قيل.
وقرئ {لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ} بالنون الخفيفة فيهما. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ}
قيل: نزلت في ثعلبة بن حاطب من المنافقين سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بسعة الرزق فدعا له فأثرى إثرَاءً كثيرًا فلمّا جاءه المصدّقون ليعطي زكاة أنعامه امتنع من ذلك ثم ندم فجاء بصدقته فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها منه.
وذكروا من قصته أنّه تاب ولكن لم تقبل صدقته في زمن النبي ولا في زمن الخلفاء الثلاثة بعده عقوبة له وإظهارًا للاستغناء عنه حتّى مات في خلافة عثمان، وقد قيل: إنّ قائل ذلك هو معتِّب بن قشير، وعلى هذا فضمائر الجمع في لنصدّقنّ وما بعده مراد بها واحد وإنّما نسبت الفعل إلى جماعة المنافقين على طريقة العرب في إلصاق فعل الواحد بقبيلته.
ويحتمل أنّ ثعلبة سأل ذلك فتبعه بعض أصحابه مثل معتب بن قشير فأوتي مثل ما أوتي ثعلبة وبخل مثل ما بخل وإن لم تجئ فيه قصة كما تقدّم آنفًا.
وجملة {لنصدقن} بيان لجملة {عاهد الله} وفعل {لنصدقن} أصله لنتصدقن فأدغم للتخفيف.
والإعراض: إعراضهم عن عهدهم وعن شكر نعمة ربّهم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)}
{وَمِنْهُمْ} أي: من المنافقين الذين عرض الله صورًا كثيرة لهم في هذه السورة الكريمة، فقال: {وَمِنْهُمْ}، و{وَمِنْهُمْ} و{وَمِنْهُمْ}، واختلفت روايات المفسرين والرواة في مدلول قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله}. فقال بعضهم: إنه ثعلبة بن حاطب، وقال آخرون: إنه مُعتِّب بن قشير، وقال رأى ثالث: إنه الجد بن قيس، وقال قائل رابع: إنه حاطب بن أبي بلتعة. كل هذه خلافات تحتملها الآية الكريمة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين} ولم يقل الحق: فلما آتيناه من فضلنا بخل به بحيث ينطبق على حالة واحدة، ولكن الحق تبارك وتعالى جاء بها بصيغة الجمع فقال سبحانه: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ...} [التوبة: 76].